كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ حِفَاظًا لِلْوَحْدَةِ وَسِيَاجًا دُونَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْفِقْهِ الْحَقِيقِيِّ فِي الدِّينِ يُعَمِّمُونَ دَعْوَتَهُمْ وَإِرْشَادَهُمْ فِي الْأُمَّةِ وَيُوَاصِلُونَهَا لَكَانُوا مَوَارِدَ لِحَيَاتِهَا وَمَعَاقِدَ لِرَابِطَةِ وَحْدَتِهَا، وَكَذَلِكَ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي، فَإِنَّ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ إِذَا قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَصِيحَةِ الْآخَرِ- دَعْوَةً وَأَمْرًا وَنَهْيًا- امْتَنَعَ فُشُوُّ الشَّرِّ وَالْمُنْكَرِ فِيهِمْ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمْ. فَكَيْفَ تَجِدُ الْفُرْقَةُ مَنْفَذًا إِلَيْهِمْ؟ أَمْ كَيْفَ يَسْتَقِرُّ الْخِلَافُ فِي الدِّينِ بَيْنَهُمْ؟ وَنَاهِيكَ إِذَا قَامَ- كُلٌّ عَلَى طَرِيقِهِ الْمُسْتَقِيمِ- الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَعَابِدِهِمْ، وَجَمِيعُ الْأَفْرَادِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ وَمَعَاهِدِهِمْ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّنَا نَرَى التَّصَدِّيَ لِنَصِيحَةِ الْأَفْرَادِ وَأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ مَجْلَبَةً لِلْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، لَا دَاعِيَةً إِلَى الْوِفَاقِ وَالْوَحْدَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَأَجَابَ عَنْهَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: كَيْفَ يَكُونُ التَّآمُرُ وَالتَّنَاهِي حَافِظًا لِلْوَحْدَةِ وَنَحْنُ نَرَى الأمر بِالْعَكْسِ؟ نَرَى التَّنَاصُحَ سَبَبُ التَّخَاصُمِ وَالتَّدَابُرِ حَتَّى صَارَ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ بَيْنَ الْإِخْوَانِ وَالْأَصْحَابِ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: أنك فَعَلْتَ كَذَا وَهُوَ مُنْكِرٌ فَارْجِعْ عَنْهُ، أَوْ أنك قَادِرٌ عَلَى كَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ فَائْتِهِ، وَذَكَرَ عَنْ نَفْسِهِ- رَحِمَهُ اللهُ- أنه صَارَ يَجِدُّ مِنَ الصَّعْبِ جِدًّا- حَتَّى مَعَ مَنْ يَعُدُّهُ صَنِيعَةً لَهُ أَوْ وَلَدًا أَوْ أَخًا- أَنْ يَنْصَحَهُ فِي الأمر أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ خَشْيَةَ أَنْ يَنْفِرَ وَبِحَمْلِهِ ذَلِكَ عَلَى قَطْعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الرَّابِطَةِ. قَالَ: فَكَأَنَّ النُّصْحَ لَهُمْ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ لَهَا إِلَّا فَرْدٌ وَاحِدٌ، وَذَكَرَ أنه لِهَذَا النُّفُورِ مِنَ النُّصْحِ يَسْلُكُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَالْمُتَّصِلِينَ بِهِ مَسْلَكَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ فِي الْغَالِبِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ حُجَّةً عَلَى اللهِ وَلَا شُبْهَةً عَلَى دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَهَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْأُمَمُ مِنَ الْفَسَادِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْخَيْرِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ.
وَتَكَادُ الْأُمَّةُ الَّتِي يَفْشُو هَذَا فِيهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأُمَمُ الَّتِي تُوُدِّعَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَشْعُرُونَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ أَشَفَوْا عَلَيْهَا، وَمَعَ مَنْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي شُعُورِهِمْ ذَاكَ وَيَتَّبِعُونَ سُنَّتَهُمْ فِي الِاهْتِدَاءِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؛ كَمَا وَقَعَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، فَأمثال هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالضِّيَاءُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ الْآنَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ أَثَرُ تَفْرِيطٍ كَبِيرٍ تَمَادَى فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ بَعْدَمَا عَظُمَ التَّسَاهُلُ فِي تَرْكِ التَّنَاصُحِ، وَبَطَلَ رَدُّ مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ- أَيْ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ- وَخَوَتِ الْقُلُوبُ مِنِ احْتِرَامِ الدِّينِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الْإِرَادَةِ، بَلْ صَارَ كُلُّ شَخْصٍ أَسِيرَ هَوَاهُ. وَمَتَى أَمْسَى النَّاسُ هَكَذَا- لَا دِينَ وَلَا مُرُوءَةَ وَلَا أَدَبَ- فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الطَّائِفَةِ مِنْهُمْ وَالْقَطِيعِ مِنَ الْمَعْزِ أَوِ الْبَقَرِ؟
عِنْدَ هَذَا سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [5: 105] فَأَجَابَ: إِنَّ هَذَا بَعْدَ الْقِيَامِ بِفَرِيضَةِ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَيْ إِنَّ الْإِنْسَأن لا يَضُرُّهُ ضَلَالُ غَيْرِهِ إِذَا هُوَ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا مَعَ تَرْكِهِ لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ. ثُمَّ قَالَ: مِنَ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اشْتَرَطُوا لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ شَرْطًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَمْ يُنْزِلْهُ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ أنه لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا مَنْ كَانَ مُؤْتَمِرًا وَمَنْهِيًّا، فَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَيْنِ يَقُولَانِ بِوُجُوبِ كَوْنِ الْوَاعِظِ الْمُتَصَدِّي لِلْإِرْشَادِ وَالدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ مُهْتَدِيًا عَامِلًا بِعِلْمِهِ مُتَّصِفًا بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِمَنْعِ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْصِبُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ مِنْ تَسَلُّقِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي فَرْضِيَّةِ الأمر وَالنَّهْيِ الِائْتِمَارُ وَالِانْتِهَاءُ، بَلْ لِأَنَّ الْمُرْشِدَ الْعَامَّ مَحَلٌّ لِقُدْوَةِ الْعَوَامِّ، فَإِذَا كَانَ ضَالًّا يَكُونُ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِثْمُهُ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِ، فَهُوَ يُمْنَعُ مِنْهَا لِدَرْءِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.
فَحَاصِلُ رَأْيِهِ: أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مَنْصِبِ الْإِرْشَادِ الَّذِي قَالَ أنه خَاصٌّ بِالْعَارِفِينَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَفُقَهَاءِ النُّفُوسِ فِيهَا. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَامِلًا بِعِلْمِهِ مُهْتَدِيًا بِمَا يَهْدِي إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ الْعَمَلَ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا، وَقُلْنَا أنه رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْغَزَّالِيِّ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ كُلِّ نَصِيحَةٍ وَأَيِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ بَلْ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَبِسَهُ الْعَارُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاعِرُ بِقوله:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ** عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّاعِرِ نَهْيَ الْمُتَخَلِّقِ بِالْخُلُقِ السَّيِّءِ أَنْ يَأْمُرَ بِمِثْلِهِ، بَلْ مُرَادُهُ أنه يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالِانْتِهَاءِ. وَمِمَّا قَالَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: أنه يَجِبُ عَلَى مَنْ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ أَنْ يَأْمُرَهَا بِسَتْرِ بَدَنِهَا، أَوْ قَالَ وَجْهِهَا، وَإِلَّا كَانَ مُرْتَكِبًا لِمَعْصِيَةٍ زَائِدَةٍ عَنْ مَعْصِيَةِ الزِّنَا وَلَوَازِمِهِ، وَهِيَ مَعْصِيَةُ تَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ يَقُولُ: يَجِبُ عَلَى مُدِيرِ الْكَأْسِ أَنْ يَنْهَى الْجُلَّاسَ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَدِيمَةٌ عَرَضَتْ لِلنَّاسِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسَانِيدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ- وَصَحَّحَهُ- وَأَبُو يَعْلَى وَالْكَجِّيُّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَغَيْرُهُمْ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا غَيْرَ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا رأى النَّاسُ الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ سُمِّيَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْلِسُ عَلَيْهِ مِنْ مِنْبَرِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَبِيبَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ.... ثُمَّ فَسَّرَهَا، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ لَنَا أَنْ قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِمُنْكَرٍ وَيُفْسَدُ فِيهِمْ بِقَبِيحٍ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ إِلَّا حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ جَمِيعًا ثُمَّ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ، ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فَقَالَ: أَلَّا أَكُونَ سَمِعْتُهُ مِنَ الْحَبِيبِ صُمَّتَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَيَشْتَرِطُ بَعْضُهُمْ لِلْوُجُوبِ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ الْأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولُوا: عَلَى الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَدْعُوَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ حَتَّى لَا يَنْفِرَ النَّاسُ أَوْ لَا يَحْمِلَهُمْ عَلَى إِيذَائِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُبَيِّنُ أنه لَا نَجَاةَ لِلنَّاسِ إِلَّا بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ. وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَرْطًا، أَيْ فَيَجِبُ أَنْ نَأْخُذَ النُّصُوصَ عَلَى إِطْلَاقِهَا، وَأَنْ نَقُومَ بِهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ أَوِ الطَّاقَةِ وَنَتَّقِيَ مَعَ ذَلِكَ مَا يَحُفُّ بِهَا مِنَ الْمَهَالِكِ.
أَقُولُ: وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوفًا بِالْمَكَارِهِ وَالْمَخَاوِفِ، وَكَمْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مِنْ نَبِيٍّ وَصِدِّيقٍ فَكَانُوا أَفْضَلَ الشُّهَدَاءِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فِي ذَاتِ اللهِ تعالى فَقَتَلَهُ عَلَى ذَلِكَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ حَفِيدَ الْعَطَّارِ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمان عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ والْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ أيضا عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَوَضَعَ بِجَانِبِهِ عَلَامَةَ الصَّحِيحِ.
أَقُولُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ وَقَدْ وَرَدَ مِنْ تَصَدِّي عُلَمَاءِ السَّلَفِ لِنَصِيحَةِ الْمُلُوكِ وَالأمراءِ الظَّالِمِينَ وَإِيذَاءِ هَؤُلَاءِ لَهُمْ وَسَفْكِهِمْ دِمَاءَ بَعْضِهِمْ مَا يَرُدُّ شَرْطَ أُولَئِكَ الْمُشْتَرِطِينَ لِلْأَمْنِ عَلَيْهِمْ وَيَضْرِبُ بِهِ وُجُوهَهُمْ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنُ التَّوَقِّي مِنَ الْهَلَكَةِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا يَجِبُ فِي حَالِ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ، فَلَا نَتْرُكُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَلَا الْجِهَادَ دُونَهُ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِنَا وَحِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا نُفَرِّطُ بِأَنْفُسِنَا فِي أَثْنَاءِ دَعْوَتِنَا وَجِهَادِنَا فِيمَا لَا تَتَوَقَّفُ الدَّعْوَةُ وَلَا حِمَايَتُهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرُ مَا يُصِيبُ الدَّاعِيَ إِلَى الْخَيْرِ مِنَ الْأَذَى نَاشِئًا عَنْ طَرِيقَةِ الدَّعْوَةِ وَكَيْفِيَّةِ سَوْقِهَا إِلَى الْمَدْعُوِّ وَلاسيما إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ مُؤَيَّدَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [16: 125].
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِدُّوا لِذَلِكَ عُدَّتَهُ وَيَعْرِفُوا سُبُلَهُ وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي السُّنَّةِ، كَقِصَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يُنَادِي فِي الطَّرِيقِ: أُرِيدُ أَنْ أَزْنِيَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَضَرَبَ عَلَى كَتِفِهِ وَقَالَ: أَتَفْعَلُ هَذَا بِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَتَفْعَلُهُ بِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَخَجِلَ الرَّجُلُ وَانْصَرَفَ. وَكَقِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَاهَدَ الرَّسُولَ عَلَى تَرْكِ الْكَذِبِ. فَهَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ وَبِهَا تَجِبُ الْقُدْوَةُ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [3: 31] وَإِنَّا لَنْ نَكُونَ مُتَّبِعِينَ لَهُ حَتَّى نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى سُنَّتِهِ وَطَرِيقَتِهِ، أَيْ فِي اللُّطْفِ وَتَحَرِّي الْإِقْنَاعِ.
أَقُولُ: أَمَّا قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ الزِّنَا فَهِيَ كَمَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا، فَهَمَّ مَنْ كَانَ قُرْبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَنَاوَلُوهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهُ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَتُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا بِأُخْتِكَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَبِابْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ فَبِكَذَا فَبِكَذَا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَاكْرَهْ مَا كَرِهَ اللهُ وَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ» كَذَا فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ.
وَذَكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي بَابِ آدَابِ الْمُحْتَسِبِ مِنْ كِتَابِ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ: أَنَّ غُلَامًا شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَتَأْذَنُ لِي فِي الزِّنَا؟ فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَرِّبُوهُ، أُدْنُ». فَدَنَا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟» قَالَ: لَا، جَعَلَنِي اللهُ فَدَاءَكَ. قَالَ: «كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟» وَزَادَ ابْنُ عَوْفٍ أنه ذَكَرَ الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ وَهُوَ يَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ: لَا، جَعَلَنِي اللهُ فَدَاءَكَ وَقَالَا جَمِيعًا فِي حَدِيثِهِمَا أَعْنِي ابْنَ عَوْفٍ وَالرَّاوِيَ الْآخَرَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: «اللهُمَّ طَهِّرْ قَلْبَهُ وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ» فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنْهُ- يَعْنِي مِنَ الزِّنَا- قَالَ الشَّارِحُ: قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. أَقُولُ: أَمَّا سِيَاقُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَلَا أَذْكُرُ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَدْ قَصَدَ الْمَعْنَى دُونَ نَصِّ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَاهَدَ عَلَى تَرْكِ الْكَذِبِ لَا أَتَذَكَّرُ مَخْرَجَهُ، وَإِنَّمَا أَتَذَكَّرُ أنه أَسْلَمَ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَدَعَ لَهُ النَّبِيُّ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ اعْتَادَهَا: الْكَذِبَ، وَالْخَمْرَ، وَالزِّنَا- فَعَاهَدَهُ عَلَى تَرْكِ الْكَذِبِ فَكَانَ وَسِيلَةً إِلَى تَرْكِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا.
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ- مَقَامِ أَمْنِ الْمُتَصَدِّي لِلدَّعْوَةِ وَالأمر وَالنَّهْيِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ كَمَا قِيلَ- يَأْتِي بَحْثُ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ مَرْتَبَةٌ غَيْرُ مَرْتَبَةِ التَّنَاصُحِ لابد فِيهَا مِنْ قُدْرَةٍ خَاصَّةٍ.
وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الْحُكَّامِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا إِذْنُهُمْ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لَا يُشْتَرَطُ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمان رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلْأُمَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ: أنه إِذْنٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَاكِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِهِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ وَتَنْفِيذٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: هُنَا يَخْلِطُونَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ وَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ النَّهْيِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ فِعْلِهِ وَإِلَّا كَانَ رَفْعًا لِلْوَاقِعِ أَوْ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، فَإِذَا رَأَيْتَ شَخْصًا يَغُشُّ السَّمْنَ- مَثَلًا- وَجَبَ عَلَيْكَ تَغْيِيرُ ذَلِكَ وَمَنْعُهُ مِنْهُ بِالْفِعْلِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَالْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ هُنَا مَشْرُوطَةٌ بِالنَّصِّ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْكَ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ غَيْرُ خَاصٍّ بِنَهْيِ الْغَاشِّ وَوَعْظِهِ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ رَفْعُ أَمْرِهِ إِلَى الْحَاكِمِ الَّذِي يَمْنَعُهُ بِقُدْرَةٍ فَوْقَ قُدْرَتِكَ. أَمَّا التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَقْتِ الْفَاعِلِ وَعَدَمِ الرِّضَى بِفِعْلِهِ، وَلِلنَّهْيِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَأَسَالِيبُ مُتَعَدِّدَةٌ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
قَالَ: نَعَمْ إِنَّ دَعْوَةَ الْأُمَّةِ غَيْرَهَا مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ لَا يُطَالَبُ بِهَا كُلُّ فَرْدٍ بِالْفِعْلِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ فَرْدٍ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ حَتَّى إِذَا عَنَّ لَهُ بِأَنْ لَقِيَ أَحَدًا مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْأُمَمِ دَعَاهُ، لَا أنه يَنْقَطِعُ لِذَلِكَ وَيُسَافِرُ لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَذَا طَائِفَةٌ يُعِدُّونَ لَهُ عُدَّتَهُ، وَسَائِرُ الْأَفْرَادِ يَقُومُونَ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَهُوَ يُشْبِهُ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَفَرِيضَةُ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ آكَدُ مِنْ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الِاسْتِطَاعَةُ لِأَنَّهَا مُسْتَطَاعَةٌ دَائِمًا. عِنْدَ هَذَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ قَطْعًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا طَائِفَةَ الشِّيعَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ مُلْتَزَمَةً عِنْدَهُمْ صَارُوا كُلُّهُمْ دُعَاةً عِنْدَمَا يَعِنُّ لَهُمْ مَنْ يَدْعُونَهُ، وَذَكَرَ أنه لَمَّا كَانَ فِي بَيْرُوتَ احْتَاجَ إِلَى ظِئْرٍ لِإِرْضَاعِ بِنْتٍ لَهُ فَجِيءَ بِظِئْرٍ شِيعِيَّةٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلَةِ فَكَانَتْ فِي الدَّارِ تَدْعُو النِّسَاءَ إِلَى مَذْهَبِهَا. وَقَالَ: إِنَّ رُعَاةَ الْإِبِلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَدْعُونَ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى الإسلام حَتَّى الْمُلُوكِ وَالأمراءِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا أَرَادَتِ الدَّعْوَةَ لَا يَقِفُ فِي سَبِيلِهَا شَيْءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قوله: إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِعُذْرٍ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ يَجِبُ أن يكون عَالِمًا.
ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ: جُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ حَتْمٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ فِي ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [5: 79] وَكَذَلِكَ عَمَلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-. وَكَوْنُ هَذَا حِفَاظًا لِلْأُمَّةِ وَحِرْزًا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا تَرَكُوا دَعْوَةَ الْخَيْرِ وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ خَرَجُوا عَنْ مَعْنَى الْأُمَّةِ وَكَانُوا أَفْذَاذًا مُتَفَرِّقِينَ لَا جَامِعَةَ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا ضَرَبَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُدَاهِنِ مِثْلَ رَاكِبٍ فِي سَفِينَةٍ يَطُوفُ عَلَى جَمَاعَةٍ مَعَهُ بِمَاءٍ وَكُلٌّ يَنْفِرُ مِمَّا مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ وَذَهَبَ يَنْقُرُ فِي السَّفِينَةِ فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدِهِ نَجَوْا وَنَجَا مَعَهُمْ وَإِلَّا هَلَكَ وَهَلَكُوا جَمِيعًا. فَفُشُوُّ الْمُنْكَرَاتِ مَهْلَكَةٌ لِلْأُمَّةِ.
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [8: 25] فَلابد لِلْمَرْءِ فِي حِفْظِ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لاسيما أُمَّهَاتُ الْمُنْكَرَاتِ الْمُفْسِدَةِ لِلِاجْتِمَاعِ كَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْحَسَدِ وَالْغِشِّ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَتَوَاكَلُ فِيهَا النَّاسُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ إِذْ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هُنَا مَيِّتًا أَنْ يَنْتَظِرَ غُسْلَهُ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْلَمَ أنه يُوجَدُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رأى مُنْكَرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ وَلَا يَنْتَظِرُ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ عَلَى رَأْيِهِ.
أَقُولُ: وَيَظْهَرُ تَذْيِيلُ الْآيَةِ بِقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا لَا يَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْقَائِمِينَ بِمَا ذُكِرَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ مِنَ السَّعَادَةِ لأهل الْحَقِّ دُونَ سِوَاهُمْ، وَلَا يَصِحُّ أن يكون خَاصًّا بِالْقَائِمِينَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفَسَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِالْفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تَتْرُكُ ذَلِكَ تَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ لَا الْمُفْلِحِينَ.